كتبتها: فاطمة ناعوت
فتحتُ لها ذراعيَّ، ففتحتْ لى ذراعيها. عانقتُها ووضعتُ رأسى على كتفِها. ثم دسستُ عينيّ وأنفى على موضع الثقب الذى اخترقته الرصاصةُ فى عظام الجميلة قبل ستين عاما؛ كأنما أودُّ أن ألمحَ خيطَ الدمِ النازف من كتفها، وأشمَّ رائحته المُخّضبةَ بتراب الوطن. عانقتُها ثلاثين ثانية، فكأنما عانقتُ قطعةً من التاريخ وزنها ستون عامًا. قبل ستين عامًا، فى ربيع ١٩٥٨، عقدَ السجّانُ أنشوطةً من الحبال المجدولة القاسية، ليدخل فى خوائها رأسُ حسناءَ نحيلةٍ، فلا يخرجُ الجسدُ الناحلُ من دائرة الحبال إلا جثّةً تتهيأ لقبرها. لكن القَدَر كان له رأيٌ آخر. تحوّل حكمُ الإعدام إلى سجن مدى الحياة. ثم تحوّل السجنُ الأبديّ إلى سنواتٍ انتهت بتحرّر الوطن من المستعمر عام ١٩٦٢.حين عانقتُها سمعتُ الحكاية كلَّها من فمِ شظية رصاص مغروسة فى الكتف. قالتِ الرصاصةُ إن صبيةً مليحة وقفت فى طابور الصباح فى مدرستها، تُنصِتُ إلى رفاق الفصول ينشدون بالفرنسية: «تحيا أُمُّنا فرنساط، فصرخت فى وجه الجميع: »بل تحيا أمُّنا الجزائر«. طردها مدير المدرسة الفرنسى من تحية الصباح، وعوقبتِ التلميذةُ عقابًا عسيرًا، لم ينته إلا لتوقن البنتُ أنه أولُّ العقابِ والعذاب، وليس نهايتَه. لأنها منذ لحظتها قرّرت أن تُخرج صرختُها من حيّز المدرسة الصغيرة، لتُدوّى فى أرجاء العالم بكامل شساعته. الصبيةُ النحيلة لم تعرف لها أمًّا إلا الوطن. والوطنُ هو الجزائر، لا فرنسا. وبدأ التمرّد والكفاح الذى انتهى برصاصة فى الكتف، أعقبه انغلاقُ بابُ زنزانةٍ موصدة وحكمٌ بالموت. لكنّ الموتَ الذى رحيمٌ فى أحايينَ كثيرةٍ رفضَ أن ينصرَ الجبروتُ على زهرةٍ تتفتح على شمس الحياة وترفض أن تتوطّن إلا فى وطنِها وحقلِها. فى طفولتها، كانت أمُّها المثقفةُ تهمسُ فى أذنِها كلَّ صباح وهى تجدلُ ضفائرها قبل الذهاب إلى المدرسة بأنها جزائرية وليست فرنسية. فكيف لا تُصدّقُ الأمَّ وتُنصِتُ إلى صوت الغرباء؟!
حين ضممتُها إلى صدرى بالأمس، وضمَّتنى إلى صدرها، شعرتُ بمسِّ الكهرباء التى صعقها بها السجّانُ قبل ستين عامًا لتعترفَ على زملاء النضال، لكنها صمتت وتحمّلت وخزات الكهرباء ولسعها الحارق فى أركان جسدها. تغيبُ عن الوعى وجعًا، ثم تفيقُ ولسانُها يلهج باسم الوطن الذى لا تعرف سواه وطنًا: »الجزائر«. أرحتُ رأسى على كتفِها فسمعتُ «نزار قبانى» يقول فى عينيها: »عينانِ كقنديلى معبد/ والشَّعرُ العربيُّ الأسوَدْ/ كالصيفِ كشلاَّلِ الأحزانْ/ إبريقٌ للماءِ وسجَّان/ الاسمُ: جميلةُ بوحيَردْ...«.
واليومَ، الجميلةُ فى مصرَ. «جميلة بوحيرد» فى «بيت المرأة المصرية»، كما أطلقتْ عليه ربّةُ البيت: د. «مايا مرسى»، رئيسُ المجلس القومى للمرأة. وكان أول احتفال يُقامُ فى مسرح المجلس. وتلك إشارةٌ ورسالة، أن يُفتتَح المبنى الجديد على شرف أيقونة نسائية عابرة للزمان والمكان. لأن جميلة بوحيرد تجاوزت أن تكون جزائرية، وتجاوزت أن تكون عربيةً، وتجاوزت أن تكون امرأة، بل غدت أيقونة إنسانيةً تتواثبُ فى رشاقة باليرينا فوق أسطر البلدان والأعراق، وفوق سطور التواريخ والعصور. لكن أنشدوة الجمال لم تتوقف عند هذا الحد. بل اكتملت حين تجاورت حبّاتُ اللؤلؤ على منصّة الحفل بأيقونة مصرية جميلة اجتمع على عشقها الفرقاء. وزيرة الثقافة المصرية، المايسترا الموسيقارة الجميلة د. إيناس عبدالدايم. نظرتُ أمامى إلى المنصّة الحافلة بتلك الزهور النسائية الجميلة: مايا مرسى، إيناس عبدالدايم، جميلة بوحيرد، زينب الكفراوى، فتيقّنت أن أنشودة العذوبة قد اكتمل عقدها. الأولى ملهمة الشابات العربيات، حائط صد المرأة المصرية ودرعها، والثانية أيقونة المثقفين ودُرّة دولة الأوبرا، والثالثة زهرةٌ جزائرية عصيةٌ على الانكسار قالت «لا» فى وجه فرنسا، والرابعة زهرةٌ مصرية عصيةٌ على الانحناء قالت «لا» فى وجه إسرائيل. نظرتُ حولى بين صفوف الحضور وتمنيتُ أن تكون بيننا الفنانة ماجدة الصبّاحى لأشهد كيف يكون العناقُ بين الأصل فى زنازين العذاب، والصورة فى زنانزين الدراما، لكنها لم تكن هناك. كان يومًا تاريخيًّا سأحكيه يومًا لأطفال الحى حين يكبرون: »أنا عانقتُ جميلة بوحيرد، فعانقتُ قطعةً من التاريخ وقطعةً من الجمال».
بروتوكول نشر التعليقات من الحدث السابع